بين الماضي والحاضر
بقلم نانسي فاعور
November 24, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

لا يحدث شيء في هذا العالم بلا سبب، حتى الحروب. فالحروب تُبنى ببطء، بهدوء، وبشكل شبه غير مرئي. كل يوم تتراكم التفاصيل الصغيرة، يزداد التوتر، تشتد الكلمات، وتتآكل الثقة، حتى نصل فجأة إلى نقطة اللاعودة. إنها النقطة الفاصلة، عندها تستيقظ لتجد نفسك في قلب حرب، حرب بين أناس تحبهم، من دون أن تعرف حقًا دوافعهم. ما كان يبدو خلافات بسيطة أو مواقف مِن فقدان الثقة يتحوّل إلى نار مشتعلة. فتتساءل: كيف تحوّل شيء عادي إلى حرب؟

لم أعش الحرب الأهلية اللبنانية، لكنني كبرت وأنا أشعر بثقلها بطريقة ما. تلك الحرب شكّلت كل ما يحيط بي: طريقة كلام الناس، نظراتهم إلى بعضهم البعض.

مع أنَّ صدى طلقات الرصاص خمد، فإنَّ حضورًا أعمق ما زال قائمًا، يستمر في تشكيل حياتنا بعد زمن طويل من توقف المعارك.

أتذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها فيلم «بيروت الغربية» وأنا في المدرسة الثانوية. لم يُصدم قلبي فقط من الرصاص والحواجز، بل من استمرار الحياة حولها: الأطفال بقوا يلعبون، الأصدقاء يختلفون، والناس يضحكون. وفي مرة أخرى، شغّلت معلمة أغنية فيروز" لبيروت". لم أفهم لماذا شعرت بضيق في صدري، لم أعش الدمار الذي غنّت عنه، لكنني ـ بطريقة ما ـ شعرت به.

هذه اللحظات جعلت الحرب أقرب إليّ مما فعل أي كتاب تاريخ. كشفت لي أن الماضي لا يزال يتنفس من خلال الثقافة، العاطفة والصمت. لذلك أريد أن أستكشف كيف ما زالت ندوب الحرب تؤثر فينا اليوم؛ ندوب صاغها عنف غير مرئي. عنف يتجلى في أفكارنا، في تعاملنا مع بعضنا البعض، وفي الأنظمة التي نعيش داخلها. إلى جانب ذلك، تترك الحرب خلفها جراحًا نفسية وأعباء اقتصادية نعيشها يوميًا.

العنف غير المرئي ليس متعلقاً بما نراه، بل ما نحمله بداخلنا ولا نجد دائمًا الكلمات لشرحه. في الحرب الأهلية اللبنانية، كثيرون ممن لم يُصابوا جسديًا جُرحوا بطرق أعمق وأكثر صمتًا. انقلب الناس على بعضهم البعض، ليس لخلافات شخصية، بل بسبب الدين، أو الطائفة، أو الجماعة التي قيل لهم أن يتبعوها. أعتقد أن كثيرين لم يرغبوا فعلًا في الحرب، كانوا فقط يطيعون الأوامر، وانجرفوا في تيار أكبر منهم. بعض الشبان حملوا السلاح للمرة الأولى في حياتهم وشعروا بالقوة، لكنهم لم يفهموا الثمن. وماذا يبقى عندما يزول هذا الشعور ولا يبقى سوى الحزن؟ حين تفقد/ين شخصًا تحبه/تحبينه، تبقى أسئلة تطاردك: هل كان الأمر يستحق؟ لماذا حدث هذا؟ فكّر/ي في الأم التي فقدت ابنها، أو الابنة التي فقدت أباها، مصدر قوتها الوحيد. كيف واصلت الحياة؟ لا بد أنها عاشت بألم، مرارة وغضب تجاه أناس لم تعرفهم يومًا. هذا الغضب يصبح موروثًا، يًتناقل ليس بسبب الحقيقة، بل بسبب الصمت وسوء الفهم. وهذه واحدة من أكثر ترِكات الحرب إيلامًا: أنها تستمر تعيش فينا حتى بعد أن تنتهي.

وماذا عن الأطفال الذين كبروا على أصوات الرصاص، وشهدوا الموت، وفقدوا حقهم في طفولة عادية؟ هل تعتقد/ين أنهم كبروا بلا ندوب أو ألم أو صدمات؟ لقد صاروا بالغين، لكن كثيرين منهم ما زالوا يحملون أثقال الماضي. كل مرة يسمعون فيها طلقة، يعود الخوف ويقبض عليهم من جديد. هذا العنف غير المرئي جزء من وجودنا اليومي. شكّل الطريقة التي نتعامل بها مع بعضنا، والطريقة التي نربي بها الجيل الجديد. إنه لا يخص الماضي فحسب، بل يؤثر على حاضرنا ومستقبلنا أيضًا.

إن تروما الحرب لا تطال فقط من قاتل فيها؛ بل تطالنا جميعًا، حتى من لم يكونوا وُلدوا/وُلدن وقتها. إنها تظهر في تعاملنا مع بعضنا البعض. لهذا من المهم أن نعترف بالعنف غير المرئي، أن نفهم الندوب التي نحملها. فأول خطوة للشفاء هي تحديد المشكلة. لأنه عندها فقط يمكن أن نبدأ رحلة الشفاء، ليس كأفراد فقط، بل كمجتمع. عندها فقط يمكن أن نكسر حلقة الصمت ونورّث فهمًا، تعاطفًا وسلامًا.

الحروب لا تقتل الناس أو تجرحهم جسديًا فقط؛ بل تدمر أيضًا الأسس التي تقوم عليها حياتهم. أثناء الحرب وبعدها، انهارت أعمال ناس وأفلسوا ماليًا، اختفت وظائفهم، انهار اقتصاد البلاد، وارتفعت الأسعار. وجدت أعداد كبيرة من المواطنين نفسها بلا مأوى أو مال. سنوات من الكدّ والجهد ذهبت أدراج الرياح. هم فقدوا القدرة على التفكير في مستقبل أفضل. كثير من العائلات اضطرت للبدء من جديد بلا شيء. أقفلت مصانع، دُمّرت أعمال، والمواد الغذائية الأساسية انقطعت. حتى هذه اللحظة، لم يتعافَ لبنان بالكامل من تلك الأزمة. اقتصاد منهار لا يعني الفقر فحسب، بل يعني اليأس، اللامساواة، وجيلًا أُجبر على البقاء حيًا بدلًا من أن يعيش. الحروب توقف الدراسة، تؤجل المستقبل، هاجر الموهوبون، وازداد نزيف العقول، فيما بقي الآخرون بلا موارد كافية لتحمل العبء.

الأمر ليس مجرد أرقام وإحصاءات اقتصادية؛ بل هو عن الناس. عن الرجل الذي لم يعد قادرًا على إعالة أطفاله؛ عن الفلاح الذي لم يعد قادرًا على شراء البذور؛ عن صاحب الدكان الذي لم يعاود فتح متجره؛ عن الرجل الذي اضطر لترك أفراد عائلته وبلده فقط ليتمكن من تأمين احتياجاتهم الأساسية. ثِقل الحرب ما زال حاضرًا في سوق العمل اليوم. إنه شكل من العنف يستمر طويلًا بعد وقف إطلاق النار.

لقد وُلدنا بعد الحرب، ومع ذلك ما زلنا نحملها بطرق لا نستطيع شرحها. ورث جيلي صمتها، خوفها وانقساماتها، من دون أن يعرف أسبابها. نشأنا على أسماء أحياء ومناطق قيل لنا ألّا ندخلها، وعلى أشخاص حُذّرنا من الوثوق بهم. حملنا جراحًا لم نتسبب بها، لكن طُلب منا أن نواصل حملها. من دون أن ندرك ذلك، وُلدنا في نظام تُنقََل فيه الكراهية من جيل إلى آخر، غالبًا بلا سياق، عبر قصص يرويها الكبار الذين سمعوها بدورهم من غيرهم، من دون معرفة أصلها أو حقيقتها. تعلّمنا أن نحذر من أشخاص لم نلتقِ بهم، وأن نرث ثِقلًا لم يكن لنا من البداية.

لكن، انسوا/انسين كل ما سبق. في هذه الذكرى الخمسين لبداية الحرب، اخترت أن أؤمن. أؤمن أنه، شيئًا فشيئًا، يومًا بعد يوم، سنمضي نحو لبنان يحب جميع أبنائه وطنهم ويتطلعون إلى سلام. لبنان لا يتعايش فيه مواطنوه فقط، بل يهتمون ببعضهم البعض بصدق، بعمق، ومن دون خوف.


تأمل لنانسي فاعور في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


بين الماضي والحاضر
SHARE