ألعاب حربنا: تبلّد مشاعر الشباب اللبناني تجاه الواقع الاجتماعي - السياسي من حولنا في بيروت
بقلم جايد دوماني
November 27, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

شكّلت النزعة العسكرية مكوّنًا مؤسفًا من تفاصيل الحياة اليومية في بيروت مطلع الألفية الثالثة. اغتيال رفيق الحريري، حرب تموز، ومواجهات ٧ أيار لم تكن سوى أمثلة قليلة على سلسلة من الاضطرابات الأمنية في تلك الحقبة التي هزّت اللبنانيين الذين كانوا نجوا من وحشية الحرب الأهلية. ومع ذلك، نحن الذين نشأنا وسط هذا الاضطراب لم نتأثر بالمجازر التي بثّتها شاشات التلفاز بالدرجة نفسها التي اهتزت بها مشاعر أهلنا وأجدادنا حين كانوا في أعمارنا. فبالمقارنة بعقود سابقة، كانت التسعينيات فترة من الهدوء النسبي، وكان ينبغي لأعمال العنف غير المألوفة في مطلع الألفية أن تصدمنا وتهزّ وجداننا، لكننا كنا بشكل غريب لامبالين إزاء التوترات المتجددة.

في الوقت ذاته، كنا الجيل الذي تعرّف إلى مستوى غير مسبوق من الواقعية في ألعاب الفيديو مع بروز الرسومات الثلاثية الأبعاد التي جعلتها تحاكي الحياة الواقعية، على نحو يشبه السينما، ولكن مع عنصر التفاعل الذي منحنا إحساسًا بالقدرة على التحكم داخل سيناريوهاتها الخيالية. ومع دخول ثقافة الإنترنت إلى الفضاء العام، خلصتُ إلى أن هذا التزامن لم يكن مصادفة. حتى وأنا من أشد المعجبين بهذا الوسط منذ زمن، بات واضحًا لي أن الألعاب التي تناولت الحرب والعمليات العسكرية كانت سببًا أساسيًا في تبلّد حساسيتنا، إذ أعادت تشكيل وعينا بالواقع المضطرب من حولنا بطريقة حرّفت إدراكنا للعنف الاجتماعي - السياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

مع مطلع العقد، راجت سلاسل الألعاب الاستراتيجية في الوقت الحقيقي (RTS) مثل Age of Empires وTotal War وCivilization وCommand & Conquer بين المراهقين من تلاميذ المدارس الخاصة. كان ذلك تحوّلًا واضحًا عن الألعاب الخيالية الكلاسيكية مثل Super Mario Bros أو Sonic the Hedgehog التي نشأنا عليها. ففي هذه الألعاب الجديدة، بدت الاشتباكات كأنها مباريات شطرنج مُمجَّدة، نلقي فيها الوحدات العسكرية على بعضنا البعض لتحقيق مكاسب ضئيلة، غير مبالين بالخسائر الجانبية، وكأن الجنود المكوّنين من بضع بيكسلات ليسوا سوى بيادق في صراع على النفوذ. لم تكن هذه الألعاب تُسخِّف الصراعات الواقعية التي سعت لمحاكاتها فحسب، بل وضعتنا أيضًا في موقع الجنرالات الذين يديرون هذه المعارك، مقلّبة نظرتنا إلى أولوياتهم من حماية الوطن إلى إسقاط العدو، مهما كان الثمن البشري. وصل الأمر مرحلة صرنا فيها نتجادل في المدرسة حول كيفية إدارتنا للعمليات العسكرية، مقارنين بين «إنجازاتنا» الرقمية وبين ما كان يحدث على أرض الواقع.

لكن الأسوأ كان قادمًا. فالتقدم التكنولوجي عنى أنَّ نوعًا جديدًا سيطر على المشهد مع تقدُّم العقد، وهو ألعاب التصويب من منظور المصوِّب الأول (FPS). ورغم أن جذورها تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن لعبة Wolfenstein ٣D (١٩٩٢) شكّلت القالب الذي بُنيت عليه الإصدارات اللاحقة. ثم جاءت Doom (١٩٩٣) التي سمحت بمباريات متعددة اللاعبين، ناشرة هذه الميزة على نطاق واسع. ومع دخول عناصر جديدة مثل التمثيل الصوتي، والتفاعل الكامل مع المحيط، والبيئات الحضرية، وصلت هذه السلسلة إلى ذروتها مع ألعاب مثل Rainbow Six (١٩٩٩) وCounter Strike (٢٠٠٠)وCall of Duty: Modern Warfare (٢٠٠٨).  بما تضمنت من واقعية في المحاكاة رفعت اللعب إلى مستويات جديدة. وقد جذبت هذه الألعاب، لسهولة الوصول إليها مقارنةً بالاستراتيجيات أو الألعاب الأقدم، جموعنا إلى مقاهي الإنترنت في الأحياء، حيث كنا نقضي ساعات طويلة نضع الخطط لاستهداف بعضنا البعض في مقابل حفنة من الليرات. وذلك بدلًًا من أن نحمل ذكريات طفولة خالية من الهموم مليئة بالمغامرات في القرى أو الحدائق أو الشواطئ، صرنا نتشارك ذكريات ضبابية عن عمليات إرهاب ومكافحة إرهاب مُحوَّلة إلى لعبة لا يمكن تمييزها بين الواقع والخيال.

خارج كهوف المقرصنين هذه، كانت بلاد الشام عرضة لتحوّلات زلزالية تهدّد وجودنا، فيما كان أهلنا قلقين حيال ما يجب القيام به في حال وقع الأسوأ وامتدّ لهيب الاضطرابات المحيطة إلى حدودنا. وبالطبع تأثرنا بهذه المخاوف، لكن نقاشاتنا حول المواجهات التي اندلعت كانت تبدو مفصولة عن قسوة الواقع، كأنها أرض لعب وأخذ ورد فيها، نناقشها كما لو كانت جولات في لعبة Red Vs. Blue وليس مشاحنات علنية بين فصائل متواجهة. علقنا في التعامل مع هذه المواجهات الوحشية كما لو كنا نشجع هذا الفريق أو ذاك في الرياضة الإلكترونية بدلًا من إدراكها كإنذارات واضحة للانهيار الذي كان ينتظرنا.

لحسن حظي وأصدقائي أننا لم نعش الحرب الأهلية ولم نتأثر بتداعياتها. لكننا تبادلنا رواية مبسّطة عنها، واحدة صوّرت مأساة يصعب تخيلها كأنها منافسة شرسة، بصرف النظر عمّن نشجّع. غرست فينا ألعاب الكمبيوتر هذه النزعة التي تكافئ «القوي» على حساب «الضعيف»، وكان من الصعب التخلّص منها، خصوصًا أننا كنا نتابع وقائع مشابهة على هواتفنا الذكية، منفصلين وغير متأثرين، عندنا برود يشبه برود تعاملنا مع ضجيج الشاشات في ألعابنا على حواسيبنا.

لكن انفجار مرفأ بيروت عام ٢٠٢٠ كان لحظة يقظة مروّعة. أشبه بتأثير «الطمس الحركي» في لعبة F.E.A.R. أذكره كاختراق نفسي هشَّم ما تبقّى من أوهامي الطفولية، وأنا أرافق شقيقتي إلى الملجأ متفاديًا الزجاج المحطّم وجيراننا المذعورين، على وقع صرخات والدتي المدوية في الخلفية. بعد عشرات الساعات من رمي القنابل في Medal of Honor، وزرع المتفجرات في Team Fortress، وإسقاط القنابل على المدن في Battlefield، وجدت نفسي مشدوهًا أمام الدمار الحقيقي لانفجار واحد، أمام الإرباك الذي كنت أمارسه يوميًا على أعداد لا تُحصى من «الأعداء» في عوالم افتراضية من أجل الفوز. في ومضة تغيّر كل شيء. شعرت بالرعب الذي تحمّله جيل أهلنا يوميًا، غير قادرين على الهرب، ولا على الردّ، مثل شخصيات ثانوية غير قابلة للحياة في اللعب تُسحق بلا مبالاة في مهمة عادية كنت أتباهى بإنجازها. لم يكن في الأمر أي «متعة». ولم يكن يجب أن يكون كذلك.

وفي اجتياح إسرائيل للبنان عام ٢٠٢٤، فقدت قريبًا لي في إحدى الغارات الجوية على الجنوب، بينما كنت أتابع كل طرف يشجّع تبادل النيران، ويطالب بمزيد من سفك الدماء، وكأن المقاتلين يحققون «سلسلة قتلات» في معركة جماعية على الإنترنت مثل PUBG أو Fortnite. ليس غريبًا أن نكون بهذا الاستعداد لدعم الميليشيات. لكنني أتساءل: هل سنتمكّن من التعافي من هذا الجرح النفسي الجماعي؟ أنا أعتقد أن أثر هذه الظاهرة مختلف على العرب مقارنة بالأميركيين. ثمة فارق كبير بين محاكاة الفوضى من راحة ضاحية مرَّفهة على الساحل، وبين ممارستها في شقة مدمَّرة وسط مدينة ممزقة بالحرب، حيث المراحل هي إعادة محاكاة لأشخاص وأماكن تعرفها، وحيث الأزمات التي تغذّي السرد الملتهب آذتْك أنت ومَن تحب مباشرة، والخطر فيها واقعي، شديد الواقعية.


تأمل لجايد دوماني في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


ألعاب حربنا: تبلّد مشاعر الشباب اللبناني تجاه الواقع الاجتماعي - السياسي من حولنا في بيروت
SHARE