الحرب وسردياتها المتصارِعة: هل نحتاج إلى رواية واحدة؟
بقلم سيلين إبراهيم
November 17, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

في أحد الصفوف الجامعية، وعند ساعة الاستراحة ونحن متحلّقين مع بعضنا، صودِف أنه يوم ١٣ نيسان، طرَح علينا أحد الزملاء سؤالَا: «متى انتهت الحرب الأهلية اللبنانية؟».

تردّد البعض، أجاب آخرون بـ«١٩٩٠»، لكن إحدى الزميلات ابتسمت وقالت: «يعني إذا فعلًا خلصِت!» ضحكنا. ثم سألَنا: مَن حارب مَن؟ توقّفنا عنالضحك. كل واحد منّا بدأ يروي قصة مختلفة. منهم مَن قال إن اللبنانيين حاربوا بعضهم، منهم من ناقضوا تلك الفكرة وجاوبوا بانفعال: لا ليسوا اللبنانيين بل جماعات أرادت ان تتصارع على أرضنا؛ ومنهم من قال إنه تدخُّل خارجي أدّى الى تحوُّل لبنان من بلد الازدهار والتطوُّر إلى ساحة معركة كان بالغنى عنها!

كل واحد يملك «حقيقة» خاصة به عن الحرب. وكأن كل واحد منا عاش في زمن معيّن وحفظ قصة معيّنة؛ سؤال بسيط، كشف فجأة عن جُرح لم يلتئم، عن ذاكرة منقسمة، وعن وطن يعيش في أكثر من رواية؛ سؤال كان السبب في أن نعرف أن لكل جماعة روايتها وإننا بعيدين كل البُعد عن الحقيقة.

ما كان صادمًا في تلك اللحظة، ليس فقط التناقض بين القصص، بل اليقين الذي كان يظهر في نبْرة كل شخص. كل طرف بدا واثقًا من روايته كأنها نصٌّ مقدّس، غير قابل للنقاش. من هنا يتبيّن أن الحرب لم تكن فقط معركة على الأرض، بل أيضًا معركة على الرواية.

كيف تُبنى السَّرديات؟

لا نُولد بسردية جاهزة. نحن نسمعها، نتشرّبها، نردّدها ننشرها نُحاكيها بطريقتنا، نعدّل فيها ونتوارى خلْفها، وكلها تأتي في أُطر مغايِرة عن الثانية.

في لبنان، يبني الناس رواياتهم عن الحرب من مصادرهم الخاصة: الجدّ الذي قاتل «دفاعًا عن منطقته»! الأهل الذين يروون الحكاية بحسب وجهة نظرهم! الجارة التي هُجّرت من بيتها! الحزب الذي يُحيي ذكرى «المقاومة» أو «الصمود»! الراوي في كتابه من وجهة نظره أو حتى صمت المدرسة التي تتجنّب الحديث عن الحرب كأنها مرَض مُعدٍ أو كأنها جريمة من المُعيبالتحدّث عنها.

غياب كتاب تاريخ موحّد لا يعني فقط أن أبناء المدارس لا يعرفون ما حصل؛ بل يعني أنهم يتخرّجون وكل منهم يعرف «شيئًا مختلفًا» عن الحدَث بحدِّذاته. السَّرديات تتكوّن حين تُكرّر القصة نفسها، بصوتٍ مألوف، في بيئة تُشبهنا. المشكلة تكمن في أن القصص لا تلتقي، لا تتحاور، لا تعترف ببعضها البعض ولا تشبه بعضها، النتيجة: ذاكرة جماعية ممزّقة، كل طرف فيها مُقتنع بأن روايته هي الرواية الحقيقية.

في الحالات الطبيعية وفي بلاد أخرى، وفي بلدان أخرى، حتى حين تختلف الروايات حول الأحداث، ثمّة على الأقل سردية رسمية مرجعية تُدرَّسللطلاب ويعود إليها المواطنون عند الحاجة. أما في لبنان، فالفراغ ترَك لكل جماعة فرصة كتابة تاريخها الخاص، معتمدة على الخوف والذاكرة الانتقائية.

السَّرديات لا تنشأ من فراغ، بل تتكوّن عبر خطاب يومي متواصل: أغنية، لوحة، شارع يُسمّى باسم معركة، أو نُصُب تذكاري لشهيد مجهول عند زاوية طريق. كل هذه العناصر ترسّخ صورة معيّنة للماضي، وتحفُرها في الوعي الجَمعي.

ماذا يعني غياب سردية موحّدة؟

في بلد خرج من حربٍ طويلة، من الطبيعي أن تكون هناك روايات متعدّدة. لكن حين تصبح هذه الروايات جدرانًا تفصل بين الناس، تتحوّل من تعدُّدية إلى انقسام.

غياب السردية الموحّدة في لبنان ليس مجرَّد مسألة تاريخية. هو أزمة هوية. هو أزمة ضَياع حين لا نتّفق على ما حصل، كيف يمكن أن نتّفق معًا على ما نريده وكيف؟ وكيف يمكن أن نكون في إطار موحّد ضمن قصة واحدة جامعة تُخبرناعن سبب وقوعها.

ربما ما نحتاجه ليس سردية موحّدة بالمعنى الضيّق، بل مساحة للسَّرديات المتعدّدة أن تتواجه، تتحاور وتتعاطف. لا أن تتقاتل من جديد.

الاعتراف بالتعدُّد لا يعني الاستسلام للانقسام، بل قد يكون خطوة أولى نحو العدالة. حين يقول كلّ منّا قصته، ويسمع قصّة الآخر، يبدأ شيء من الشفاء. لا لأننا اتفقنا، بل لأننا احترمنا الاختلاف دون نكران أو استعلاء.

قد تكون السَّردية الجامعة التي نبحث عنها، في الحقيقة، هي سردية الصِّدق: أن نقبل بأن الحرب لم تكن قصة واحدة، بل عشرات القصص، متناقضة، مؤلمة، ولكنها جميعها حقيقية.

كم من مرّة دخلنا في نقاش مع صديق أو قريب حول «مَن بدأ الحرب وكيف»، أو «مَن كان على حقّ»، لينتهي النقاش بموجة توتُّر أو صمت ثقيل؟ هذا ليس خلافًا في الرأي فقط، بل اختلاف على أساسيّات بناء الذاكرة.

غياب رواية مشتركة يعني أيضًا غياب شعور موحّد بالعدالة. مَن يشعر بأنه ضحية، لا يرى نفسه في رواية الآخر… والأسوأ، أنه قد يشعر بأن الألم الذي عاشه يُنكر أو يُحقَّر كلّما طُرحت رواية مغايرة. والنتيجة؟ شعور دائم بالخِذلان، وبأن لا أحد يفهم الآخر فعلًا. كأن الحرب لم تنتهِ، بل انتقلت من الشارع إلى الذاكرة.

نرى هذا الانقسام في كل مكان: في السياسة، في الإعلام وحتى في الفن. حفلات تأبين أو احتفالات «نصر» تتزامن في التواريخ، لكن تختلف في اللغة والرموز. مجازر تُروى بشكل بطولي في جهة، وتُعتبر وصمة عار في جهة أخرى. لا عجب أن المصالحة في لبنان لم تتحقّق فعليًّا: فكيف نتصالح مع ماضٍ لا نتّفق على سرديته؟

هذا الغياب ينعكس حتى على حياتنا اليومية: حين يتجنّب البعض الحديث عن الماضي خوفًا من فَتح جراح قديمة، أو حين يستخدم آخرون الحرب كذريعة لخطاب تعبَوي جديد. نحن عالقون في دوّامة صمت وصراع غير معلَنين.

هل نحتاج إلى سردية موحّدة؟

السؤال ليس بسيطًا.

قد يقول البعض إن السردية الموحَّدة ضرورية لبناء وطن واحد. فكما يحتاج الجسد إلى قلب واحد، تحتاج الدولة إلى ذاكرة جامعة. رواية تُمثّل الجميع، لا تستثني أحدًا، بل تعترف بالضحايا جميعًا، وتُدين الجرائم كلها، دون تبرير.

لكن في واقع متشظٍّ كلبنان، هل هذا ممكن؟ أم أن محاولة فرض سردية واحدة ستؤدّي فقط إلى إسكات أصوات أخرى؟ أليست هذه مجازفة بإعادة إنتاج الظُّلم تحت اسم الوحدة؟

ربما ما نحتاجه ليس سردية موحّدة بالمعنى الضيّق، بل مساحة للسرديات المتعدّدة أن تتواجه، تتحاور، تتعاطف. لا أن تتقاتل من جديد.

ربما نحتاج إلى الحقيقة الكاملة الواضحة والصريحة.

أن تعامُل الجيل الجديد مع الحرب ممكن أن يكون سبب انقسام يُضاف إلى ما نعيشه اليوم. إن حاجتنا كشباب، اليوم، ليس فقط أن نفهم ما الذي حصل بل أن نستخلِص منه العِبر، أن نرويه للجيل القادم. فبعد مرور ٥٠ عامًا على الحرب أصبح من الضروري طيّ صفحة هذا الكتاب برواية موحَّدة جامعة تُروى بلسان واحد لكافة الأجيال.

من الرواية إلى المستقبل

في غياب الرواية الجامعة، يصير الماضي عبئًا لا مصدرًا للفَهم. هناك مَن يصمت خوفًا من الجراح، وهناك مَن يُعيد استثماره لصناعة أعداء جُدد.

في ختام هذا السِّجال في ذلك الصف الجامعي وتلك الاستراحة القصيرة، لم نصل إلى جواب موحّد. لكننا خرَجنا بأسئلة.

سألنا أنفسنا: هل ما سمعناه في بيوتنا كافٍ لفَهم ما حدث؟ هل سُردت القصة كاملة؟ أم فقط الجزء الذي يُناسب البيئة التي نشأنا فيها؟

غياب السَّردية الموحّدة ليس مجرّد فوضى روائية، بل علامة على ألم لم يُفهم بعد. ربما تبدأ المصالحة لا بتكرار رواية واحدة، بل بالاستماع لكل الروايات. ربما تُبنى الأوطان لا على النسيان، بل على ربما الكتابة، وربما الاستماع، وربما الحكايات الصغيرة التي نُرويها لبعضنا البعض، هي الطريق نحو وطن لا يُجمّل ماضيه، ولا يهرُب منه، بل يعترف به بكلّ تعقيداته.


تأمل لسيلين إبراهيم في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


الحرب وسردياتها المتصارِعة: هل نحتاج إلى رواية واحدة؟
SHARE