صار وقت إنّي أُكتب، بسّ كنت كل الوقت عم فكر بأيّ لغة لازم أُكتب. عربي؟ فرنسي؟ أو إنجليزي؟ ما بعرف! لأن بْهيك بلد، حتّى اختيار اللّغة اللّي بدي عبّر فيها عن أفكاري بِصير مش بسّ خَيار ثقافي، إنمّا خيار سياسي كَمان. بسّ في شي جوّاتي كان عم يقلّي «اكتبي بلغتك الأُم»، اللّغة اللّي بتشبهك وبتشبهُن. يمكن اللّغة هي الشي الوحيد اللي بعده بيجمعنا، بسّ كمان مش كتير مأكّدة. فما بعرف، خلّينا نبلّش من هون، بركي بنهاية هالمقال منلاقي إذا اللّغة بتجمعنا، أو اللّي بيجمعنا شي أعمق.
هلأ صار فينا نبلِّش!
انتهت الحرب اللّبنانية بالألف وتسعمية وتسعين (١٩٩٠)، صار في وقف إطلاق نار، الدبّابات انسحبت من الشوارع، والنّاس تخطِّت كل شي صار بهَل خمستعشر (١٥) سنة، أوعالقليلة، هيك خبّرونا. بسّ بالنّسبة إلنا، جيل ما بعد الحرب، الجيل إللّي ما عاش الخطف والقتل عالهوية بسّ عطول حسّ بوجودهُن، الحرب ما انتهت، بسّ تغيّر شكلها. تسلّلّت على لغتنا، تسلّلت على مخاوفنا، تسلّلت على زوايا بيوتنا. ورِتْنا جروح عميقة كتير، بسّ ولا مرة شفناها عم تنزُف. غريب هالشّعور، هنّي انخطفوا، ونحنا إللّي ضعنا، هنّي انصابوا ونحنا اللّي نزَفنا، هنّي عاشوا، ونحنا إللّي متنا. شفتوا كل شي عم بوصفه؟ هيدا هو شعور إنّو نعيش من دون نهاية حقيقية.
النهاية الحقيقية بعد الحرب هو إنّو يتم التعامل مع الجروح النفسيّة بشكل مناسب ويصير المجتمع قادر يعيش بسلام بعد ما كان كل واقعه عبارة عن عنف واضطرابات. النهاية الحقيقية يعني «محاسبة».
خلِقت بعد سنين من إنتهاء الحرب، ولا مرّة اضطّريت أهرب من ملجأ لملجأ، أو ودّع خيّي كأنّه ما رح إرجع شوفه مرّة تاني، أو حتّى أخزق بطاقة انتمائي السياسي وأبلعها ع شي حاجز، بسّ عطول كنت عم عيش مع صدى هالأمور. كبِرت عم بسمع جُمل متل «بأيّام الحرب» بصوت شبه مخطوف، وعطول هيك بجُمل مش كاملة. أهلي، عيلتي، أساتذتي... كلن لمّا كانوا يحكوا عنها، كانوا يحكوا بنفس الطريقة، شي عاشوه بسّ ما قدروا يشفوا منه أو يتخطّوه. أول ما يبلشوا يحكوا، دغري يرجعوا يسكتوا، وهيدا الصّمت كان أقوى من أي قذيفة. هلأ هني عطول كانوا عم يخبّرونا عن الحرب، بسّ مش بالطريقة اللّي منتخايلها. تخيّلوا إجا حدا خبّركن قصة، خبّركن عن البطل وخبّركن عن الشّرير، وصار يحكي عن أحداث وأحداث. بسّ فجأة، إجا حدا وحرَق ورقة النهاية، بطّل في نهاية وبطّل في جواب لأسئلتكُن، بِقي بسّ الفراغ. شي مِزعج صح؟ إي هيدا شعورنا نحنا يلي خلِقنا بعد الحرب. عم نعيش على أنقاض سرديّة ما انكتبت حتّى، لأن بكل بساطة، بعد اتّفاق الطّائف، إختُصر السّلام بكلمة وحدة: «عفا الله عمّا مضى»، وهو لا الله عفا، ولا الماضي مضى.
قصة حزينة ومؤلمة ما في إلها نهاية وما إلها جواب. والمؤلّفين؟ عادي، بعدهُن عايشين حياتن بيناتنا، عم يكتبوا كتاب تاريخ جديد، ونحنا بقينا علقانين بالصّفحة اللّي احترقت، عم نفتش عَنِهاية مش موجودة. والمؤلم أكتر هو غياب ذاكرة جماعية نتذكّر من خلالها. كل طايفة عم تقرأ بالكتاب تبَعها، وكل ضحية عندها شريرها، بسّ عطول ما في نهاية. تاريخنا كله مجزّأ ومشتّت على أسس طائفية. كان بدنا بسّ رواية موحّدة وحقيقة مشتركة نِحزن عليها أو نِشفى منها، و للأسف هويّتنا كلبنانيين صارت متل هالتّاريخ، مجزّأ ومش مفهوم.
المشكلة أنّه ما صار في اعتراف. لا سمّينا الضحايا ولا سمّينا اللي قتلوهن. ليش ما عملنا عدالة انتقالية؟؟ ليش ما صار في محكمة؟؟ كيف يعني اللي عملوا الحرب شَلْحوا تياب الميليشيات، لِبسوا البدْلات، وصاروا زُعما وحكّام دولة؟؟ لك هيدي مكافأة علنية. وعادي، إللّي راحوا، خلَص، راحوا، وبقيوا بسّ صورة على شي حيط بيت، إمّ انكسر قلبها وانتهت حياتها بعد ما انتهت حياتُن.
وهَيدي إحدى نتائج غياب المحاسبة: إعادة إنتاج أُمَرا الحرب كأبطال وطن. كيف معقول الضحية تحترم قاتلها لما يصير بموقع سلطة؟ كيف بدو ينبَنى ثقة مع نظام ما اعتذر أصلًًا عن كل شي عملُه، لأ وطلَب منّا نسكُت كمان.
خلّينا نحكي شوَي أكتر عن نتائج غياب المحاسبة بعد الحرب، وكيف أدّى هيدا الغياب لجعل لبنان يعيش بسلام سلبي بعيدًا عن الوحدة الحقيقية والإصلاحات المنشودة.
غياب العدالة خلّا ذاكرة الحرب ملك للسياسيين، بِحرّكوها وقت ما بدُّن، ووقت تصير خطر عليهن، بيدفْنوها. الشّي اللي صار بعد انتهاء الحرب هو سلام هشّ، قائم بسّ على وقف إطلاق نار، لا على المصالحة ولا على الإعتراف ولا على المواجهة.
اجتماعيًا، انقسَمْنا أكتر. كل طائفة كتبت روايتها الخاصة عن الحرب، وبيتنا بطّل يشبَه بيت الجيران. صُرنا مجتمع عم يعيش سلام هشّ، سلبي، وخالي من المصالحة الحقيقية. لا تصالحنا مع الماضي ولا واجهناه، كرمال هيك، بقي فينا خوفنا من الآخر وانعدام الثقة وصارت الطوائف تبني جدران وهمية. لك حتى سكوتنا مش سلام، قنبلة موقوتة ما منعرف أيّ ساعة بتنفجر. الطائفية السياسيّة صارت هى السّمة الرئيسيّة للنظام، بدل ما تكون العدالة الانتقالية أداة لبناء الدولة على أُسس مدنيّة. والطوايف بدل ما تتقارب، زاد تمسّكها بنفوذها وصارت الإنقسامات الطائفيّة أكتر. النتيجة كانت إنّو السياسة اللّبنانية إنبَنت على المصالح الطائفيّة مش على المصلحة الوطنية، وبالتّالي افتقرنا لهوية وطنيّة موحّدة.
أما على الصعيد الاقتصادي، ساهَم غياب المحاسبة بتعميق الفِجوة بين الطبقات الاجتماعية لأن النظام السياسي اللّي نشأ بعد الحرب كان بيفتقر للآليات اللّازمة لإعادة بناء الإقتصاد اللّبناني بشكل سليم. يعني بدَل ما يصير في استثمار بمشاريع تنمويّة على أُسس عادلة، راحت أغلبية الموارد المالية لجيوب السياسيين، وهيك، استمرّت كمان سياسة المحسوبيّة، الشي اللّى أدّى لتفاقم الفقر والبطالة. أمّا عن قطاع الخدمات العامّة، فحدّث ولا حرَج. تدهورت بشكل كتير ملحوظ بسبب الفساد والمحسوبيات اللّي هيمن على هالقطاعات، فصار الإستثمار بهيدي الخدمات أقل أهمية من المحافظة على شبكة العلاقات السياسية اللي بتضمن بقاء الفاسدين بالسلطة.
أما علينا نحنا الشباب، فغياب المحاسبة خلََق عنا فجوة كبيرة. برجع بقول نحنا ما عشنا الحرب بطريقة مباشرة، بسّ كبِرنا ببلد ما كان يخبّرنا الحقيقة، ما سمِعنا اعتراف وما شفنا عدالة. كيف يعني هيدا مش منّا ونحنا مش منُن؟؟ ليش مين هنّي ومين نحنا؟ هيك؟ بهالسهولة يعني؟ أغلب الشباب بدل ما يربوا على شعور بالانتماء لوطن موحّد، تربّوا على انقسامات طائفية وخطابات سياسية. طيّب كيف بدُّن يؤمنوا بدولة إذا الزعما نفسهن شاركوا بخرابها؟ كيف بدُّن يتخيّلوا المستقبل إذا الماضي اللي هو ماضي بعدو مجهول؟ هيدا الشي زرع عنا جوّ عام من فقدان الثقة بالنّظام وبالمؤسّسات وبالمستقبل ككل. صرنا شايفين لبنان بلد مش قادر يعطينا أمل وصار الحلم عند كتار الهجرة، مش التغيير، لأن ببساطة شو بدنا نغيّير بنظام لا حاسَب ولا اعترف؟
بِغْضَب أوقات... بِحقُد... عشي ما بعرف شو هوّي، بوقَف هيك وبطّلع فيهن. نفس الوجوه، إنو نفس الخطابات ونفس الأكاذيب. هنّي نفسن اللّي سفْكوا دمّنا وفَرجونا الجحيم بعيون أهلنا، هنّي ذاتُن صاروا زُعمانا. بنوا مجدُن على دمّنا ومن صرْخات أمّهاتنا. لما شوفهن عالشّاشات، متربّعين عكراسي الحُكم بتختنق روحي. كيف قِدروا؟ كيف بعد كل اللّي صار من فساد وسرقات وخراب، إلهن هيبة ودولة وإعلام؟ كيف يعني الوجوه اللّي زرعت الحرب صارت نفسها رموز «الاستقرار»؟ يمكن غضَبي مش بسّ إنّو ما تحاسبوا، لأ بل لأن كوفئوا كمان وصاروا زُعما.
نحنا جيل ما بعد الحرب، ولاد الصّمت، ما عنا رواية، وما منعرف الحقيقة. كل شي منعرفه انه انتهت الحرب بلا ما تنتهي. سكَتت البواريد، بسّ الأصوات اللّي شعّلتها ضلّت عم بتصرّخ. حسّسونا إنّو الماضي عيْب لازم نخبّيه، مش إنّو جرح لازم نداويه. محكومين من نفس الوجوه اللّي تقاتلت، تصالحت، وتقاسمت الوطن. صاروا رجال «دولة» وهنّي اللّي دمَّروها أصلًا. قعدوا على كراسي حكم كان لازم تكون منصّات محاسبة. حاملين أعباء الماضي بيوميّاتنا، بالوظيفة اللّي مش كافيتْنا، بطوابير البنزين، بإنهيار اللّيرة، بنظام طائفي ما تحاكم لأنّو كُرِّس ليبقى. هويّتنا مشوّشة، مش عارفين فيها إذا كنا مواطنين أو أتباع. منُنظر للبنان كحِلم، بسّ حِلم مأجّل، كاحتمال لدليل براءة رغم كل الدلائل اللّي بتثبت الجُرم، منشكّك، منعصّب، منساير، منرجع منِسكت، لأن تعوّدنا نِسكت.
انتَهت الحرب، بسّ إنتو ما رَحلتوا. كنتُ أظنُّ أنَّ النّهاية التّي لم تُكتب بعد، ستكون بْرَحيلكُم، لكنّكم نجَوتُمتم. فرحََلنا نحن، وبقيتُم أنتم.
تأمل لجيسّي الحاج في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»