لغة العنف وعنف اللغة الذي نطبّع معه دون علمنا: حرب أهلية مستمرة
بقلم حوراء دهيني
November 22, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

«شو أنا بدّي حرب أهلية؟ بس إذا صارت في عندي ليستة بـ٢٠٠ واحد بدّي شقِّفن»

هذا ما قاله الصحافي جوزيف أبو فاضل خلال مقابلة تلفزيونية أُجريت معه قبل فترة، وما لبثَت عبارته أن تحوّلت إلى مادّة للضحك والاستهزاء، بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يشكّل المحتوى العنيف مصدَرًا لانزعاج جَدّي لعموم الجمهور باعتباره استدعاءً لاقتتال أهلي جديد.

ليست المرة الأولى التي يحضُر فيها العنف أو يُشار فيها إلى الحرب الأهلية في معرض المزاح على الشاشات اللبنانية وفي الفضاءات العامّة في لبنان.

وُلدتُ في جنوب لبنان وكانت الحرب الأهلية قد وَضعت أوزارها قبل ثلاث سنوات فقط. ورغم أن تلك الحرب لم تكن حاضرة في ذاكرة أهلي بشكل مباشر، إلّا أنني نشأت في ظلِّّ حروب أخرى، أكثر التصاقًا بحياتي اليومية.

في الجنوب، لم تكُن الحرب الأهلية هي الشبَح الحقيقي، بل إسرائيل. كانت الهاجس الذي شكّل وعي الجنوبيين وحرّك مخاوف أطفالهم. في قبو ذاكِرتي صورٌ تعود إلى «عناقيد الغضب» عام ١٩٩٦، مجزرة قانا، وأطفال المنصوري.

لكن، على هامش هذه الصوَر، تسكن حروب صغيرة أخرى، كحرب «الأخوة» وحرب «المخيّمات»، وحروب ننتظرها وتتربّص بنا عند كل منعطف، ولا ندري ماهيّة أسبابها فتظلُّ أكثر التباسًا، وبين جولَتي حرب تبقى ظلال الاقتتال وبقاياه في الحكايات وفي الهمَسات، في النِكات والشتائم وفي الخوف والصمت.

أفكر أحيانًا: هل تندلع الحرب دون أن نراها؟ ما الذي يجعلها جزءًا من لغتنا وخيالنا؟ وهل حقًا تنتهي الحرب عندما يُعلَن وقف إطلاق النار؟ أم أنها تتربّص بنا بانتظار الانقضاض مرة أخرى؟

اللغة كمَوروث ثقافي

لا يرِث البشر فقط البيوت والديون والأسماء، يرثون أيضًا اللغة والذاكرة وطرائق التعبير. عبارات وقصص تَطبع وَعينا منذ الطفولة، حتى تصبح مألوفة إلى حدّ أننا لا ننتبه لمعناها الحقيقي.

أمي التي لم تمارس العنف الجسدي ضدنا قطّ، كان تقول حين يُغضبها أحدُنا: «لازمِك تعليق عالبَلانكو!»، عندما ترى أنّ ما حدَث لا يجب أن يمر دون عقاب حقيقي.

 أما جارتُنا، التي اختُطف شقيقها في بداية الحرب الأهلية، فكانت تدمع وتقول عند كل منعطف يمرّ فيه شبح الاقتتال: «صدق زين شعيب لمّا قال: دايمًا عزرائيل ناصب إلنا كمين».

صُرت أستخدم مصطلح «بَلانكو» مع أخوتي وفي المدرسة دون أعرف معناها، أدركت لاحقًا أنها ليست إلا سلسلة حديدية يستخدمها القصّابون لتعليق اللحومات، وقد استُخدمت بالحرب الأهلية للتعذيب، هل تريدون عبارة أكثر رُعبًا؟ زميلتي في المدرسة كانت تقول: «زعلك شو قريب، شو قطّعتك وصبّيت عليك باطون»؛ صورة أخرى قادمة من الحرب الأهلية، مشاهد لطالما كان تخيُّلها يبعث على الانزعاج والرعب.

عنف اللغة: السياق والدلالة

تؤكّد الأبحاث اللّسانيّة النفسيّة أنّ العنف ليس فعلًا مادّيًا يمارسه فرد ضد فرد آخر فحسب، بل هو أيضًا حدَث لغوي أو فعل كلامي يعبِّر عن موقف سيكولوجي انفعالي، والتلفّظ بالعنف يكون عبر استخدام الكلمات التي تنتمي إلى قاموس مفردات السبّ والشتم والتهديد والتعنيف والتجريح. وألفاظ وتعبيرات العنف تمثّل أفعالًا لغوية إنجازية وتأثيرية، وتؤدّي وظائفَ تداوُلية معينة، وتُسهم في بناء الخطابات العنيفة وتخصيصها بنيويًّا ونمطيًّا، وتجعل لها اعتبارًا مهمًّا لدى المجموعة، فالعنف إذًا هو سلوك وانفعال، وفي حالة الغضب العدواني يرغب المرء في إفراغ ما في جُعبته من مرارة وحَنق وغيْظ، فيحاول التخفيف من وطأة هذا الضغط النفسي والتقليص من حجمه باستخدام الألفاظ العنيفة، وبذلك يتّخذ العنف اللفظي مَنحيين، فمن جهة قد يكون الطريقة الأقلّ حدّة في تفريغ الغضب، ومن جهة أخرى قد يُشير وخاصة عند الإكثار من تداول الألفاظ الدالّة على العنف إلى الغضب المختزن في النفوس الذي يمكن أن يخرج عن السيطرة ويأخذ دلالات لها أبعاد غير البُعد الكلامي، بالإضافة إلى أنّ الدماغ يطبّع مع الصوَر المتداوَلة بكثرة مع الوقت ويجعل تخيّل حدوثها وتطبيقها أكثر سهولة.

كيف يرى الأدب العنف ويحاول تفكيكه

تقول غادة السمّان في روايتها «كوابيس بيروت» الصادرة عام ١٩٧٦، «الحياد في عالم العنف جريمة أيضًا، إنه مساعَدة لأحد الطرفين على تصفية الآخر، ثم إن الانضمام إلى أحد الطرفين يجعل الموت أقلّ مرارة، الموت الجماعي أسهل من المواجهة الفردية للموت». وتسأل «إلى أي حدِّ يُعتبر رفض العنف جريمة؟ وهل هذه جريمة تستحق الموت بعنف؟».

في محاولة لتحليل لغة العنف المتداوَلة والناجمة عن تأثير مباشر للحرب الأهلية وأخَواتها، حاولتُ استعادة تجربة قراءتي لبعض الأعمال الأدبية الصادرة في الحرب وبعدها، والتي شكّلت الحرب وتبِعاتها خلفيتها و«الثيمة» الأساسية في بُنيتها السَّردية، في سعي لتفكيك لغة العنف فيها وعنف اللغة.

بعد قراءتي «كوابيس بيروت» مثلًا، رافقَنيالمشهد الذي تصف فيه غادة السمّان كابوسًا تُهاجم فيه الجرذان أطفالًا بعد احتجازهم في الملجأ وقضمِها لحمهم الحي، وصار استحضاره لصيقًا بالجرذان. 

أمّا تجربة قراءة رواية الحرب الأهلية «الخائبون» الصادرة عام ١٩٩٥ لمنى شاتيلا، فقد كانت أكثر إمتاعًا، حاولت فيها الكاتبة تفكيك رواية الحرب بطريقة عميقة وشاملة، وبحثت فيها عن أسباب اندلاعها، ويظهر أنّها وجدت في تناقض السَّردية التي بُني عليها المجتمع اللبناني أهمّ أسباب ذلك، الرواية متماسكة ومبنيِّة بإتقان رغم إشباعها بالاستطرادات، حاولَت من خلال الشخصيات تفكيك الفكر الديني والسياسي، وانتقدت فيها الأطراف والتناقضات بطريقة عنيفة وشرسة أحيانًا، وجسّدت الميول العُنفية على لسان الشخصيات في كثير من الحوارات، إحدى الشخصيات تقول، مثلًا: « كأنّ ما يحدث في لبنان من حروب لا يعدو كونه مزحة إلهية، فالحرب ليست كما يجب، إنها هزلية على نحو ما»؛ فتسألها جارتها: «كل هذه الجثث والحرب هزليّة؟»، لتُجيب: «بالطبع، عون ضعيف لا يذهب في الحرب إلى مداها، موزِّعًا نصف حنَقه على القوات، القوات تخبِّئ نصف عنفها إلى لحظة انقضاضها عليه»؛ «ادرُسي وجوه عناصر حرس الأرز، الرغبة بمصِّ الدم والقتل موجودة على وجوههم لكن لقياداتهم حسابات خاصة يلجمونهم بها...»!

المقطع التالي أكثر غرابة، فقد صدَر عن الشخصية نفسها:«ماذا لدينا؟ بضعة آلاف من القتْلى؟ مئات من المعاقين؟ قليل من المجازر والمذابح مما لا يُشبع القلب ولا يروي الروح، كأنّما الربّ عندنا يبتدئ عنفه بولَع شديد ثم يتراجع في منتصف الطريق...»!

رواية حكايات الحرب

شكَّلت الحرب الأهليّة مدخلًا دسِمًا وأرضًا خصبة للقصَص التي يجب أن تُروى كي لا تضيع في غياهب النسيان، فالروائيّون اللبنانيون ظلّوا أسرى هذا الحدث الجلَل ولم يستطيعوا التجاوُز عنه خلال أعمالهم، وذلك طبيعي باعتباره حدَثًا تأسيسيًّا في المجتمع اللبناني، والقفز عنه عند كتابة أدب الخيال الواقعي يُعدُّ انفصالًا عن الواقع، وبذلك ظهرت الكثير من الروايات الأليمة والعنيفة كسياق، بحُكم قصتها.

رواية «حكاية زهرة» الصادرة عام ١٩٨٠ أي خلال الحرب الأهلية لحنان الشيخ هي إحدى تلك الروايات الأليمة بمسار أحداثها، فهي قصّة فتاة تعرّضت لكافّة أنواع العنف وطبّعت عليه بعد أن فشلت في محاولة الهروب منه، إلى أن قضى عليها، تعرّضت زهرة للتنمّر والتحرّش والاغتصاب وصمدت حتّى انتهت حياتها قتلًا في آخر المطاف، تساءَلَت كثيرًا عن السبب الذي دفع زهرة للتطبُّع مع كل ذلك العنف، وعن العدالة التي ظلّت محظورة عليها فلم تنَل رغم ذلك إلّا القهر والموت.

أمّا رواية «يالو» الصادرة عام ٢٠١٢ للكاتب الياس خوري، فقد كانت من الروايات الشّاقة على الاحتمال، حتّى أنّ المشاهد المزعجة والعنيفة والمقزّزة فيها جعلَت متابعتها أحيانًا يتطلّب جهدًا شاقًّا. 

أحداث الرواية تدور في الفترة التي تلَت الحرب الأهلية بوقتٍ وجيز، وهي تحكي عن شاب شارك في الحرب كمقاتل، وقام بالاغتصاب والسرقة، وبعد دخوله السجن تعرّض لكافّة أنواع التعذيب من المحقِّقين ليقتلعوا منه الاعترافات. العنف والجنس «ثيمتان» رئيسيّتان في الرواية، يُدخلنا إلياس خوري إلى عالم التعذيب في السجون اللبنانية؛ التعاطف مع «يالو» بسبب ما يتعرّض له بدا بديهيًّا.

رغم قساوة مشهد وصف التعذيب من خلال الجلوس على القنينة والتغوُّط على الذات بسبب التعذيب، إلّا أنّ مشهد نهش الجسد من قبل قطّ مسعور كان الأكثر رُعبًا وإثارة للذهول، ما اضطُرني إلى وضع الرواية جانبًا. يصل «يالو» إلى مرحلة يعترف فيها بأشياء لم يقُم بها بسبب سوء المعاملة. تُضيء «يالو» على الحرب كأداة تهشيم بآثار لا تنتهي، تجعل من المشارك فيها كائن غريزي لا يُجيد العيش دون رائحة الحرب والقتل والتحلُّل الإنساني. اتّهام «شيرين» لـ«يالو» باغتصابها كان مثيرًا للاستغراب، ففي حين كان يبدو متفاجئًا فعلًا من هذا الاتهام لأنّه كان يجد في سلوكه ممارسةً للحب، كانت تُسايره وتتقزَّز منه، كيف أمكن أن تتناقض رؤية شخصين لحدثٍ واحد إلى هذا الحدّ؟ وكيف تحوِّل الحرب الإنسان إلى كائن غريب لا يستطيع تقدير حجم ما يسبِّبه من أذى؟

 أمّا رواية «دنيا» لعلويّة صبح، الصادرة عام ٢٠٠٦، فهي رواية نسائية بامتياز، وقد أضاءت على آثار العنف من زاوية الطرف الثالث. «أبو توفيق» إحدى الشخصيات المُسالمة في الرواية، بداية الحرب قرّر البقاء في بيروت الشرقية لأنه لا يُحب معاشَرةَ الإسلام باعتبارهم «هردبشت»، ولم يُغادرها إلّا على مضَض بعد أن طلب منه أحد المسلحين أن يُخرج بطاقة هويته، وبعد إخراجها شدّه بشعره وانهال عليه ضربًا وأمره بشتم من أراد شتمهم، ثمّ قال له: «يلا روح زمَطت ما جاي على بالي اقتلك، ما بتحرز رَوّح عليك رصاصة»؛ اضطر بعدها إلى ترك الشرقية والسكن في «الحمرا». وبعد تلك الحادثة ومقتل صديقه «إيلي» فقَد عقله وخرِف فصار لزامًا على زوجته العناية به ووصْد الباب عليه والاعتناء به حتّى آخر أيّام حياته. مُدهشة قِدرة السياسة والحرب على تغيير مصائر النساء حتّى رغم عدم انخراطهنّ بها غالبًا.

في سياق رديف كانت تجربة قراءة رواية «الاعترافات» الصادرة عام ٢٠٠٩ لربيع جابر، و«شريد المنازل» الصادرة عام ٢٠١٠ لجبّور الدويهي أكثر لطفًا وهدوءًا، فقد استطاع الكاتبان فيهما استحضار الحرب الأهليّة ببشاعتها ومآسيها وآثارها، بلغةٍ أكثر عطفًا، وتماهيتُ مع الأحداث وأثارت تعاطفي، بعيدًا من العنف، بلغتها ومقاربتها للأحداث، وأوصلت لي صوتًا مرتجعًا ينبذ الحرب والاقتتال دون الغرق في الصخب والعنف، لذلك أعتقد أنّ الكاتبين نجحا في هذين العملين في التأطر ضمن دائرة «القصّ الراقي».

لا ندري إلى أيّ حدٍّ يجب أن يتحمّل الأدباء - كعيون على الأحداث ومشاركين في صناعتها - المسؤولية في محاولة رسم واقع جديد أقلّ سوداوية وعنفًا عند نقل أي صورة أو حدَث، ولا نعرف القدَر الذي يُساهم فيه «القصّ الجريء» الحريص على نقْل وقائع الأحداث بما تختزنه من مأساوية، واللغة بما تحتويه من ظلام أو كراهية، في رسم العنف وتشكيله بأساليبَ جديدة، وسيبقى الحدّ الفاصل بين مساءلة العنف والتطبُّع عليه أو إعادة تشكيله عصِيًّا على القياس، لكنّ المؤكّد أنّ مطالبة القائمين على الفن والأدب بالبحث عن لغة أكثر اتّزانًا ليس إلّا نوعًا من الوصاية وأنّ لغة أي مجتمع ليست إلّا إعادة مراجعة لتجاربه المُعاشة وتمظهُر مُعاد لإنتاج واقعه.


تأمل لحوراء دهيني في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


لغة العنف وعنف اللغة الذي نطبّع معه دون علمنا: حرب أهلية مستمرة
SHARE