الحرب لا تغادرني… ولا الذكريات
بقلم يارا عبود
November 17, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

في جنوبي لبنان، لم يكن التهجير مجرّد انتقال جغرافي قسْري، بل اقتلاع نفسي عميق غيّر مصائر الآلاف. لم تكن الحرب حدَثًا عابرًا في الزمن، بل لحظة تحوّل جذري في حياة أشخاص خسروا منازلهم، أحبابهم، وأمانهم.

غالبًا ما يُسلَّط الضوء على أبعاد الحروب السياسية أو العسكرية، لكنّ الألم الإنساني والنفسي يظلّ مهمّشًا، رغم كونه الأكثر رسوخًا وتأثيرًا في حياة الناجين.

من بين الفئات التي تضرّرت بشدّة، برزت النساء اللواتي تهجّرت وانتقلت للعيش في غرف ضيّقة من دون خصوصية، واللواتي تركت عندهن الحرب ندوبًا لا تُرى، لكنها ما زالت تؤلِم حتى اليوم.

قصة «زينب»، امرأة مهجّرة من الجنوب، وقصة «برجيت»، امرأة عايَشت الحرب الأهلية اللبنانية، تكشفان لنا أن الألم لا يعرف الزمن، وأن الصدمة لا تعترف بالحدود.

في سنوات من التوتّر الأمني والاعتداءات المتكرِّرة، شهِد الجنوب اللبناني موجات تهجير قاسية. القرى التي كانت تنبُض بالحياة تحوّلت فجأة إلى مناطق خطر، وسكانها اضطُروا إلى الفرار تحت وقْع القصف والهلَع.

لم تكن المشاهد مجرّد لقطات في نشرات الأخبار: منازل مهدّمة، مدارس مُغلقة، حقول مهجورة، وعائلات تبحث عن مأوى في صالات المدارس أو بيوت الأقارب أو حتى في الشوارع.

التهجير ترافَق مع خسائر متعدّدة: مادية، اجتماعية وعاطفية.

الفئات الأكثر هشاشة - النساء، الأطفال، وكبار السن - تلقّت الضربات الأقسى. النساء وَجدن أنفسهن في مواجهة المجهول، يتحمّلن مسؤولية العائلة في ظروف قاسية، في حين كنّ في أمسّ الحاجة إلى من يُنقذهن.

زينب، في أواخر الثلاثينات اليوم، تتذكّر بوضوح اللحظة التي تغيّرت فيها حياتها إلى الأبد. كانت في بداية العشرين، تستعدّ لزفافها، وتحلم بإكمال دراستها في التمريض في بلدة عيترون. عندما قابلتها ذكرت لي بحسرة والدموع على خدَّيها: «لم أكن أتصوّر أن أُضطر إلى الهرب من كل شيء في لحظة واحدة. تركت خلفي بيتي، وأحلامي وخطيبي. حتى صوَري… لم أتمكّن من أخذها معي». 

حين بدأت القذائف تنهال عليهم، هرَعت زينب مع عائلتها إلى بيروت. لجأت إلى مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء مؤقّت. الأرض كانت فِراشهم، والجُدران بلا أبواب، والليل طويل وخالٍ من الأمان.

« كنت أنام خائفة، وأستيقظ خائفة، وأعيش في جسدٍ لا يعرف الراحة». 

الخبر الأكبر ألمًا والنُدبة الأكثر حفرًا في وعيها وروحها أتياها حين علمت بخبر استشهاد خطيبها: «كأنني متُّ للمرة الثالثة. الأولى حين خُفت، الثانية حين هَرَبْت، والثالثة حين رحل مَن كنت أحب». تُكمل قصتها بحسرة. 

تصِف زينب انهيارها كأنه غرَق بطيء. لم تجد أحدًا يفهم أو يسمع. كلّما حاولت أن تتحدّث عن ألمِها، سمعت كلمات مثل: «كوني قوية… هذه ليست نهاية العالم». لكنها كانت، بالنسبة لها، نهاية عالمها الخاص.

آثار ما عاشته زينب لم تكن فقط لحظات مؤلمة، بل تحوّلت إلى صدَمات نفسية مُزمنة. 

تعيش في حالة استنفار دائم، تخاف من الفقدان وتنتظر الكارثة التالية، وكأنها لم تخرج يومًا من دائرة الخطر. أصوات الطائرات تُثير فيها الهلع، فتُعيدها إلى مشاهد الهرب والقصف التي لا تزال تُحاصرها حتى في الأحلام. تتجنّب السير قرب المواقع المزدحمة أو الضيّقة، كأن الجدران تضيق عليها كما ضاق العالم من قبل. فقدَت شهيّتها ونشاطها، ورغبتها في التواصل مع الآخرين، حتى الثقة التي كانت تمنحها بسهولة باتت غائبة. انسحبت من محيطها، وانكفأت على ذاتها، لا لضعفٍ فيها، بل لغياب مَن يسمعها أو يفهمها حقًا.

تقول: «لم أكن أعرف ما الذي يحدث لي. فقط كنتُ مُتعبة… مُرهقة… أبكي دون سبب». 

غياب الدعم النفسي زاد الأمر سوءًا. لم يكن هناك مَن يسأل: «كيف تشعرين؟»، بل كان التركيز كلّه على نجاة جسد. النفس كانت آخر ما يُفكَّر فيه.

ما عاشته زينب لم يكن مجرَّد حزن عابر، بل سلسلة من التفاعلات النفسية العميقة التي غيّرت علاقتها بنفسها وبالعالم. بعد التهجير والخسارة، بدأت تظهر عليها أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بوضوح: كانت تستفيق ليلاً مذعورة من كوابيس متكرِّرة، تطاردُهاصوَر الطائرات والدخان وصوت صراخ خطيبها، كأن الزمن توقف عند لحظة الفَقد. تجنّبت أي حديث عن الماضي، وكأن الكلمات نفسها تؤلمها، وغالبًا ما شعَرت بالانفصال عن الواقع، كما لو أن جسدها في مكان وروحها في مكان آخر. الخوف صار يُلاحقها في أبسط اللحظات، من ضوء ينطفئ فجأة، أو صوت مرتفع في الشارع، وكل شيء بات يحمل احتمال الخطر. حتى علاقاتها بأقرب الناس إليها بدأت تتلاشى، فقد شعَرت وكأنها «منعزلة داخل جدار غير مرئي»، لا أحد يراه، ولا أحد يسمع ما يدور خلفه.

هذا الضغط النفسي المتراكم تطوّر لاحقاً إلى نَوبات اكتئاب حادّة، تتجلّى في فقدان الاهتمام بالحياة، الأرَق المستمر والإرهاق العاطفي.

ما عاشته زينب، تكرّر بصيغة أخرى قبل عقود، في تجربة برجيت، وهي امرأة لبنانية من بيروت، من منطقة الاشرفية تحديدًا، عاشت الحرب الأهلية التي تسبَّبت بخسارتها لطفلها، جورج، وتقول كأنها تعود بالزمن إلى تلك اللحظة المشؤومة: «كنت أعدّ له طعامه… ثم دوّى انفجار. حين دخلت الغرفة، كان كل شيء محترقًا. لم يبقَ من ابني سوى اسمه». 

برجيت لا تزال، حتى بعد ثلاثين عامًا، تصرخ عندما تسمع صوت طفل يركض.

«أصرخ بلا وعي: يا جورج! يا جورج! وكأنني أبحث عنه في كل وجه». 

عانت برجيت من أعراض شبيهة بما تعيشه زينب؛ فقد كانت الكوابيس تلاحقُها كل ليلة، تُوقظها من نومها على وقْع الخوف ذاته. تمرّ بنوبات هلع مفاجئة، يختنق فيها صوتها ويضيق عليها صدرَها، وكأنها مُحاصرة من كل الجهات.سيطرَت عليها رغبة دائمة في الهروب، لا تعرف إلى أين، لكنها كانت تشعر أن البقاء مؤلِم أكثر. كانت تخشى الارتباط مجدَّدًا، وكأن القلب لا يحتمل خيْبة أخرى، وفقَدت ثقتها بالمجتمع من حولها، فلم تعُد ترى فيه ملاذًا أو أمانًا، بل مرآة لذاك الفَقد القديم.

لكن أكثر ما أدمى قلبها هو ذنبُها الناجي، دون طفلها: «نجَوت، لكنني لا أعرف كيف أعيش بعدَه. شعرت كأن بقائي خيانة»، الألم لا يُغادرها. 

برجيت، مثل زينب، لم تجِد من يحتضن ألمَها النفسي. المجتمع صمّ آذانه، والمعايير الاجتماعية كانت قاسي: «قالوا لي: الحياة تستمر. لكنهم لم يقولوا لي كيف أستمر أنا».

ورغم كلّ شيء، رفضت زينب أن تبقى في موقع الضحية. شهور من الألم، قرّرت بعدها أن تُكمل دراستها في التمريض: «أردت أن أفهم جسدي… وأفهم ألَمي… وأساعد نساء أخريات». 

انخرطت في وُرشدعْم نفسي، وصارت تُساهم في مبادرات مجتمعية تُعنى بالنساء المتضرّرات من النزاعات.

الصمت الذي دمّرها، حوّلته إلى صوت يدافع عن الألم النفسي وحق النساء في الشفاء.

نساء كثيرات مثل زينب لم يتوقّفن عند الحزن، بل قاوَمن بأساليبهن: من التعليم، إلى العمل، إلى رواية قصصهنّ.

التهجير لا يُقاس بعدد الكيلومترات التي نُجبَر على تركها، بل بالمسافة التي تُبعدنا عن ذَواتنا، عن إحساسنا بالأمان، والهوية.

الحرب لا تنتهي بانتهاء القتال، بل تستمر في النفوس، في الأرَق، في الأحلام الممزّقة، وفي الصمت الطويل.

وحده الاعتراف بالألم، وتوفير مساحة للبوح والشفاء، يمكن أن يُعيد التوازن النفسي.

قصتا زينب وبرجيت تشهدان على أن النساء لا يحملن فقط ذاكرة النجاة، بل أيضًا إمكانيات الصمود والتحوّل.

ومن خلال صوتهنَّ، نحفظ ذاكرة لا يجب أن تُنسى، ونفتح بابًا للشفاء الجمْعي. لأن مَن ينجو بجسده، لا يكون قد نجا فعلًاً … ما لم تُعالََج الروح.


تأمل ليارا عبود في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


الحرب لا تغادرني… ولا الذكريات
SHARE