في كلّ مرّةٍ تبدأ جدّتي بعبارة «في ذاك الزمان»، أدرك أنّها قصّة عن زمن الحرب. هي تبدأ بالخبر، وأنا أُكمله، وتسألني متعجّبة: «كيف علمت ما كانت النهاية؟» أقول لها: «بيني وبينكِ خمسون عامًا، ورغم أنّ أحداث الحرب سابقةٌ على مولدي، لكنّني بحثت عن كلّ تفاصيلها، وعاصَرت أحداثًا مشابهةً في العقدين الأخيرين من الزمن، أبرز ما تكرّر فيهما هو مشهد الحرب».
إحدى القصص التي تلَتها عليَّ في أحد الأيام كانت عن تهجير العائلة من بلدة الجرمق الجنوبية في قضاء جزّين: تهجّروا على وقْع صوت البندقية وتحت مستوى رصاص القنّاصة، رحلوا هم وجيرانهم إلى بلدات أخرى، وتخلّلت رحلتهم ساعات رُعبٍ متواصلة، يأملون بالوصول فيها إلى أيّ وجهةٍ، أحياء. ما يتذكّرونه يومذاك هو استقبال الناس للمهجّرين بإلفه وإنسانية، واحتضانهم في مساكنهم ريثما تعود الأمور إلى طبيعتها... هذا إن لم يُصبح أولئك المستضيفين بدورهم مهجّرين لاحقًا. وبالفعل هذا ما حصل عندما امتدّت الحرب إلى شتّى البلدات، فعائلتي انقسمت ما بين المتوجّهين إلى العاصمة بيروت وضواحيها، حتى صاروا غُرباء حيث ذهبوا واستقرّوا، ومنهم من توجّه إلى مرجعيون – البلدة الحدودية في الجنوب – حيث لم يكن الوضع أفضل، مرجعيون التي سكَنوها حتّى اليوم، عانت من الحروب والأذى، تحديدًا منذ أحداث ١٩٦٩ واتفاق القاهرة.
وكما قالت جدّتي: «كان كلّ يومٍ هادئٍ يثير الذُّعر فيّ لأنّني أعلم أنّ هناك أمرًا بشعًا سيحدث لاحقًا». كون جميع الجرائم أصبحت متاحة في زمن الفوضى، لقد عاش الناس آنذاك أيّامًا بغيضة جدًّا، وإن لم تهرب من وابل الرصاص، قد تتعرّض إلى الخطف. ذات يومٍ اختُطف أحد أفراد العائلة، وهو أبٌ شابٌّ لثلاثة أولاد. البعض يقول قُتل فور اختطافه، والبعض الآخر قال إنّه كان مسجونًا في سوريا، في النتيجة لم يُعثر عليه أبدًا. وأقسى الحوادث التي أخبرتني عنها جدّتي كانت يوم قُتل أخاها الفتيّ بالرصاص خلال فترة شاع فيها القتل على الهويّة، وأي ازدواجيّة كان يعيشها القاتل آنذاك! فهو بدوره، في نظر آخرين، آخرين مختلفين عنه بالهويّة ضحية محتّمة بسبب اختلاف هويته. عن أي تهجيرٍ نتكلّم إذًا، إذ لم تكن لا الجرمق ولا جزّين ولا مرجعيون وغيرها مكانًا آمنًا لأحد.
ولعلّ أغرب صورةٍ تراودني هي: هل سأُجالس أحفادي يومًا وأُخبرهم بدوري عن حكاياتي في الحرب؟ فأنا أيضًا مررت بتجربة أولى في حرب تمّوز ٢٠٠٦، وأنا أبلغ من العمر تسع سنوات. توجّب عليّ التصرّف برشدٍ أمام أخي الأصغر منّي والذي لم يكن قد دخل المدرسة بعد، فكان درسه الأوّل آنذاك أنّنا إن سمعنا صوت الطيران يقترب وشعرنا بهديره، فيجب أن نركض إلى زاويةٍ محصّنةٍ من البيت. ويكفي تذكّر كم من ليلةٍ اختلطت فيها أنوار النجوم مع أضواء القذائف المنفجرة في سماء مرجعيون، فما عاد اللّيلُ ليلًا إلّا بعد حين. البعض يتذكّر «عناقيد الغضب» عام ١٩٩٦. نعم صرنا نُعطي أسماء للحروب... والأخطر من تسميتها هو توريثها للأجيال، فلماذا نملأ أذهانهم بهذه المصطلحات؟!
صرنا نتجنّب إضاءة الأنوار في العتمة، لأنّ النور في معجم الحرب هو إشارة لوجود حركة غريبة. ومنزلنا لم يعد ملائمًا للسكن، فانتقلنا إلى منزل أقربائنا، ننام عشرون فردًا في زقاق البيت. تخيّلتُ صوت جدّتي تقول: «شعرتَ بما شعرنا؟». كان القرار الصعب في اليوم التالي أن نتّجه إلى العاصمة بيروت. سِرنا بموكب سيّاراتٍ مغطّاة براية السلام البيضاء، وطالت رحلتنا إلى بيروت ثماني ساعاتٍ متواصلة. أعلم شيئًا واحدًا في ذاك اليوم، لم يكن هناك رصاصًا طائشًا لكنّني أخفضت رأسي كما أخبرتني جدّتي.
لم تكن الأشهر اللاحقة على هذه الحرب مريحة، خاصّةً أن التوتّر الأمني على الحدود كان أمرًا متوّقعًا في كلّ يوم، إمّا على خلفيّة إطلاق النار أو خرق حدوديّ، فتّتسع رقعة الخوف من عودة الحرب مجدّدًا. وأحيانًا كثيرة ينتهي اليوم الدراسي قبل أوانه، ويُسارع الأهل إلى جلب أبنائهم من المدرسة خوفًا من تطوّر الأحداث. إنّها المرّات القليلة التي نحبّ فيها الحصّة الأخيرة ونريد إكمالها، لا أن نرحل باكرًا دون أن نعرف إذا ما كنا سنعود في اليوم التالي.
كنّا ونحن صغارًا نعتقد أن الحرب موسمية، فانتظرنا في كلّ عامٍ ما إذا كانت ستندلع حربًٌا جديدة. لا أعلم لماذا هذا الانتظار، ربّما لنهيّئ أنفسنا معنويًّا أو لنتحضّر من حيث الغذاء والمسكن والدواء في حال حُوصرنا وطالت مدّة الحرب، خاصّة أننا لا ندرك تمامًا موعد اندلاعها. وهذا ما لمَسته عند بداية حرب غزة في السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣، وانخراطنا في لبنان في الحرب في اليوم التالي، لكن هذه المرّة، لا ندري إذا كان شعور الخوف يجهل قدوم الحرب، أو أنّنا اعتدنا عليه من معارك سابقة. عشنا في المنطقة الجنوبية الأشهر الأولى من الحرب كأنّ شيئًا لم يكن، بالطبع تضرّرت المهن وتوقّفت المدارس ونزحت بعض العائلات، لكن معظمنا لم يترك بيته في المرحلة الأولى.
طالت هذه الحرب مقارنةً بحرب تمّوز ٢٠٠٦، اقتربنا من بلوغ العام الأوّل منها ومآلها لم يكن واضحًا بعد. لكن مع ارتفاع وتيرة الأحداث إلى مستوى أخطر وأصعب، راودتنا ذكريات حرب تمّوز. والابن البكر الذي أظهر نفسه راشدًا في المرّة السابقة، عليه أن يُعيد الكرّة.
بما أنّني أعمل في العاصمة بيروت، انقطعتُ عن زيارة الجنوب، وفكّرتُ برشدٍ أنّني إذا وصلتُ إلى منزلي في مرجعيون لن أكونَ ذا فائدة لوالديّ هناك وأنا معهما تحت الحصارين البرّي والجوّي، يعانقان عواميد البيت بسبب القصف المحيط بهما، يقضيان ساعات الليل مستيقظَين على هدير صوت جنازير الدّبابات تقترب من البلدة. أمّا أخي فبقيَ معي في بيروت، وطبعًا تقع عليّّ مسؤولية العناية به. وكم من ليلة قضيتها في مواجهة سيْل عواجل الأخبار لأعرف ما إذا كان القصف قد اقترب من منزلنا، ولأطمئنّ على أهلي أو أسأل مَن في البلدة عنهما. انتهت الحرب الأخيرة عندما أصبح في إمكاننا العودة إلى منزلنا واللقاء مع أهلنا وأحبابنا، عُدنا إلى بلداتنا عند إعلان وقف إطلاق النار، لكن الحقيقة أننا لم نتركها يومًا في مخيّلتنا وعشنا الحرب من بعيدٍ وكأنّنا في وسطها مباشرةً.
من جدّتي إلى والديّ فصلٌ من الحرب، صُنعت فيه شخصية اللبنانيين المقاومين الذين يرغبون الحياة، ومن والديّ إليّ فصلٌ مماثلٌ صُنعنا فيه كشباب لبنانيّين نحارب لنبقى حيث نحن. تشاركنا عبر تاريخنا مواكب السيارات النازحة بين المناطق، والبيوت الضيّقة التي عجّت بالمهجّرين من كل جهة، وأصوات الدبابات والقذائف والطيران والرصاص. ونسأل بعضنا اليوم، أهذا ما نريد أبناء الغد أن يتشاركوه معنا؟
لعلّ الجيل الجديد لم يعد يكترث لأخبار الماضي، وهذا حقّه برفض تركةٍ من عنفٍ ودمار. لكن ذاكرتنا الجماعية تمتدّ عبر التاريخ، فلا فائدة من تناسي الماضي ودفن أحداثه، تلك الأخيرة التي نستقي منها العِبر ونترجمها حاضرًا ومستقبلًا. أنا بدوري آمنت في صغري أنّنا سنبقى في ديارنا سالمين ومسالمين، كما أؤمن أنّني خضتُ هذه التجارب لسببٍ أو غايةٍ، فأنتجت تلك الأحداث شخصًا محاربًا رغم التحديات، ولولاها لما كان يكتب تلك السطور. رغم المعارك حولنا، نختار معركتنا بأنفسنا ونواجه فيها معوّقات الاستمرار والبحث عن الأمل في الحياة.
في الختام أقول: «يخرج الفرد من الحرب أمام مفترق طرقٍ، إمّا أن يورِّث الحرب لمن بعدَه، أو يكون قويًّا بما فيه الكفاية ليمنع عودة الحرب».
تأمل لجوزيف خوري في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»