الذاكرة الجماعية والتأريخ الرسمي في لبنان:صراع على رواية الماضي
بقلم محمد الخبّازة
November 26, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

الذاكرة الممزَّقة بين الحرب والتاريخ الرسمي

يعيش لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في حالةٍ من الشَلل التاريخي، حيث تمَّ ترحيل أسئلة الحرب إلى هوامش الذاكرة الوطنية. بين ذاكرة جماعية مجروحة وتأريخ رسمي ناقص، يتشكَّل وعي الأجيال الجديدة على أرضية هشّة من السَّرديات المتضارِبة. فالمدارس تتحدّث عن الحرب باعتبارها «ظرفًا استثنائيًا» انتهى باتفاق سياسي، فيما تتوارَث العائلات قصَصًا شخصية مُشبعة بالخوف والدمّ والانقسام، هذا الانفصام بين الذاكرة والتاريخ الرسمي لا ينعكس فقط على نظرتنا للماضي، بل يهدِّد إمكان بناء مستقبَل مشترك.

ما يجعل المسألة أكثر تعقيدًا أن كل حزب سياسي وطائفي في لبنان يملك روايته الخاصة عن الحرب، رواية غالبًا ما تُضخَّم بطولات الذات وتستصغِر أو تُجرّم الآخر، فذاكرة القوات اللبنانية مثلًا تحكي عن معركة بقاء وهوية مسيحيّة مهدَّدة، بينما ترى حركة أمل وحزب الله في ماضيهما مقاومة شرعية ضد التهميش والاحتلال، أما الحركة الوطنية فتتبنّى خطاب الدفاع عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لكل سردية قدِّيسوها وشياطينها، ولكل جماعة شهداؤها الذين يتمُّ إحياؤهم كل عام، وكأننا لم نخْرج فعليًّا من زمن الحرب.

الأحزاب السياسية الطائفية استثمرت بشكل مباشر في كتابة هذه الروايات، كل منها يعظّم ذاته ويَستهين بالآخر، بحيث تحوَّلت السَّرديات إلى أدوات تعبئة سياسية مستمرة، تغذّي الانقسامات بدلًًا من ترميمها.

معبَر خوف في زمن الحرب

كبِرت وأنا أسمع قصص الحرب تتسرَّب في الجلسات العائلية. أمي، مثل كثيرين من جيلها، حملت ذاكرة الخوف في قلبها حتى دون أن تعبِّر عنها بالكلمات دائمًا. من بين القصص التي روَتْها لي، قصة محفورة في ذاكرتي كأنها حدثت معي شخصيًّا:

كانت أمّي شابّة في بداية شبابها وكانت برفقة عمّها بسيارة من بلدتها سرعين في قضاء بعلبك إلى بيروت، تحديدًا في العام ١٩٨٣، كما تذكر أمّي، وسَلكوا الطريق عِبر منطقة ضهور الشوير، هناك اعترضهم حاجز مسلح تابع لميليشيا - كانت القوات أو الكتائب كما تذكر أمّي أيضًا، لم تكن تحمل تذكرة هوية وقتها، وبدأ الخوف يعتريهما، حاول عمّها التوسُّل قائلًا: «وحياة القرآن، هيدي بنت خيّي». فما كان من المسلح الذي كان يُمسك زجاجة بيبسي بيده، إلّا أن رد بسخرية قاتلة: «أنا عندي القرآن، والإنجيل، وقنينة البيبسي سوا».

في لحظة بدا فيها أن المصير محسوم، أنقذتهما صدفة شخصية، أحد المقاتلين على الحاجز كان يعرف عمّها، وهو من بلدتهما، ولولا هذه الصدفة، لربما كانت النتيجة مأساوية. هذه القصة، التي رَوَتها أمّي علينا، لم تكن مجرّد ذكرى شخصية، بل نافذة نطلّ منها على كيف كانت الانتماءات الطائفية والهويات المفروضة قادرة على تحديد الحياة والموت بلحظة واحدة. 

هذه القصة، مثل آلاف القصص الأخرى المنتشرة في بيوت اللبنانيين، تكشف حقيقة مريرة: في زمن الحرب، كانت الهوية الطائفية هي جواز المرور الوحيد، أو ربما تذكَرة الموت.

قصة «الحاجز» التي روَتها والدتي ليست مجرد حادثة شخصية، انما تختصر منطق الحرب اللبنانية بأكمله: سَطوة السلاح، والقتل على الهوية، والعيش في ظلِّ الخوف من الاسم والطائفة والانتماء. لم يكن القتل آنذاك نتيجة مواجهة مسلّحة أو اشتباك، بل قرارًا لحظيًّا واعتباطيًّا على حاجز، يتحدّد وفق بطاقة هوية أو لهجة أو مكان ولادة. هذا الواقع حمل معه معنًى مرعبًا للهشاشة الإنسانية في لحظة الحرب، حين يُصبح الانتماء عبئًا قاتلًا.

ورغم أن سنوات طويلة مرّت، إلّا أنّ هذه الروايات لم تُنتسََ. بل ما زالت تُروى في البيوت، أحيانًا بصوتٍ خافت، وأحيانًا كجزء من رواية جماعية تنقلها الأجيال الشابة، إما عبر الحكايات العائلية أو من خلال النشاطات الكشفية والحزبية التي تستحضر الحرب لتغذّي الإحساس بالتهديد المستمر. وهنا يبرز سؤال أساسي: هل يكفي تذكُّر هذه الحكايات لطيِّّ صفحتها؟ أم أن استمرار تداوُلها بنفس البُنية، وبغياب أي مراجعة نقدية، يُبقيها حاضرة وقابلة للتكرار؟

في الواقع، السَّرديات الطائفية لا تزال تُروى بالحماسة نفسها، دون تفكيك أو مساءلة. ما يجعل هذا الإرث لا مجرّد ذكرى، بل احتمالًا دائمًا. فالذي مارَس قتلًا على الهوية لا يقف اليوم على حاجز، لكنه يسكن قصة لم يتمَّ التحقُّق منها، وفي حيّز عام تملؤه صوَر الأبطال «المنقذين» الذين لم يُحاسَبوا يومًا.

السَّرديات الكبرى والتجربة الفردية

القصة التي روَتها والدتي، مثل آلاف القصص الأخرى التي لم تدوَّن رسميًّا، تُظهر بوضوح كيف تُسهم القوى السياسية والطائفية في إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية وفقًا لمصالحها. في لبنان ما بعد الحرب، لم تُبنَ ذاكرة وطنية موحَّدة، بل استمرَّت الذاكرات المجزَّأة.

كل حزب، كل طائفة، وكل منطقة، اختارت أن تحفظ قصتها الخاصة، قصة تُعلي من شأنها وتُشيطن الآخر، المدارس، الكتب، الإعلام، كلها تساهم في تعزيز هذه السَّرديات المتوازية التي نادرًا ما تلتقي. وهكذا نجد أن حادثة صغيرة على حاجز يمكن أن تتحوّل إلى رمزية وطنية، فهي تكشف أن العبور بين منطقة وأخرى، بين هوية وأخرى، لم يكن مجرّد مسألة تنقُّل، بل عبورًا داخل شبكة معقّدة من الخوف والهوية والانتماء المفروض.

إن سرد مثل هذه القصص الشخصية، ومقارنتها مع الخطابات السياسية والرسمية، يُتيح لنا فرصة نادرة لمساءلة السَّرديات السائدة، وإعادة التفكير في ما يعنيه فعليًّا أن نبني ذاكرة جماعية شاملة، تتسع للجميع، ولا تقتصِر على المنتصرين أو مَن يملكون صوتًا أعلى.

الهوية كسلاح، القتل الطائفي وتفكُّك الجيش 

شكّل القتل على الهوية واحدةً من أبشع الممارسات التي وسَمت الحرب الأهلية اللبنانية بطابعها الطائفي العنيف، فقد تحوّلت الهوية الدينية أو المناطقية التي يكشفها الاسم أو البطاقة الشخصية، إلى أداة فرز وإقصاء دموي على حواجز المسلَّحين، لم يكن الانتماء الطائفي مجرّد سِمة اجتماعية، بل أصبح معيارًا للفناء أو النجاة، وراح ضحية هذا التصنيف القسري آلاف المواطنين الذين لم يكونوا جزءًا فاعلًا في النزاع المسلح.

في هذا السياق، لم يكن الجيش اللبناني بمنأى عن آثار الانقسام الأهلي، رغم محاولات مؤسّساته الحفاظ على الحياد الوطني، إلّا أن الجيش تفكَّك فعليًّا مع تصاعُد الصراع، إذ انقسم أفراده وألويته وفق انتماءاتهم الطائفية والجغرافية. هذا الانقسام لم يُضعف فقط قدرة المؤسّسة العسكرية على أداء دورها كضامنٍ للاستقرار، بل جعل العديد من الجنود أنفسهم عُرضةً للقتل على الهوية في مناطق التماس.

إن تجربة القتل على الهوية وتفكُّك الجيش خلال الحرب الأهلية ليست مجرّد محطات في تاريخ العنف اللبناني، بل تشكّل جروحًا مفتوحة في الذاكرة الجماعية. إن استحضار هذه الأحداث بصدقٍ ووعي، بعيدًا من السَّرديات الطائفية المتنازِعة، يشكّل خطوة ضرورية نحو بناء سردية وطنية شاملة تتجاوز الانقسامات، وتؤسِّس لفَهم أكثر نضجًا لماضٍ لا يزال يرخي بظلاله الثقيلة على الحاضر والمستقبل.

هذه الأمثلة على تفكُّك الهوية الوطنية وسقوط الحياد المؤسَّسي تؤكِّد كيف أن الذاكرة الجماعية للبنانيين محمولة على قصص العنف والانقسام، مما يجعل الحاجة ملحّة لإعادة قراءتها بوعيٍ نقدي ومسؤول.

انقسام الذاكرة بين المناطق وتجاذُب السَّرديات المتنازعة

في شوارع لبنان، تنطق الأمثلة العيانية بحجم الانقسام، لا يزال لبنان اليوم مقسَّمًا حتى في ذاكرة الحرب: ففي الضاحية الجنوبية لبيروت تروي الروايات أن الحرب كانت مقاومة شرعية ضد الاعتداء؛ بينما في مناطق كسروان والمتن وجبيل مثلًا، يتمُّ الاحتفاء بمقاومة الوجود الفلسطيني وسلاح الأحزاب اليسارية؛ الأحياء والمدن اللبنانية تملك تواريخها الخاصة، ذكريات أحيائها، أبطالها المحلّيين، وأعداءها المرسومين بدقّة طائفية.

الأكثر خطورة أن هذا التشظّي في السَّردية لا يقتصر على الكبار في السنّ، بل يمتدّ عبر الأجيال، إذ تقوم الأحزاب، كل في مناطقه، بتلقين نُسخها الخاصة من الماضي للأبناء، عبر المخيّمات الكشفية، والأنشطة الحزبية، وحتى المناهج التعليمية.

السَّرديات الرسمية لم تعترف بهذه التجارب الفردية ولا بهذه الحقيقة المرّة، اختارت السلطة السياسية التي أعقبت الحرب أن تكتب تاريخًا نظيفًا معقَّمًا، يطمس المسؤوليات الجماعية، ويروِّج لفكرة أن الحرب «حصلت بفعل قوى خارجية» أو «سوء فهم داخلي» سرعان ما جرى تجاوُزه بالمصالحة. هكذا، فُرض على الأجيال الجديدة تأريخ رسمي مقطوع عن جذور الألم الحقيقي.

لم يكن الهدف فقط تجاوُز الماضي، بل كذلك حماية الطبقة السياسية التي كانت بمعظمها مسؤولة عن الحرب، فجاء اتفاق الطائف محمّلًا بتفاهمات عريضة على «نسيان» الماضي مقابل تقاسُم الحاضر والسلطة.

السَّرديات المختلفة التي صاغتها الأحزاب اللبنانية حول الحرب الأهلية لم تبقَ حبيسة كتب التاريخ أو خطابات الماضي، بل جرى إعادة إنتاجها وتكريسها، بعناية، في وِجدان الأجيال الجديدة. هذه السَّرديات لا يتمّ تداولها فقط في المناسبات السياسية أو النشرات الحزبية، بل تُبثّ بشكل ممنهَج عبر مخيَّمات كشفية تابعة للأحزاب، حيث يُربّى الأطفال على تمجيد «شهداء الحزب»، واستعادة رموز المعركة، بل حتى ترداد شعارات المرحلة وكأن الحرب لم تنتهِِ.

أكثر من ذلك، تمارس الأحزاب سيطرة شبه تامة على الفضاء العام من خلال الرموز البصَرية: صور الشهداء، أعلام الطوائف، الشعارات الحزبية التي تملأ الجدران، أسماء الشوارع والساحات التي تغيّرت لتعكس سردية الطرف المنتصِر في كل منطقة. في الضاحية الجنوبية مثلًا، يروي المكان قصة مقاومة بطولية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بينما تروي بعض أحياء المتن وكسروان قصة صمود «مسيحي» ضد خطر وجودي. هكذا يتحوّل المكان إلى مرآة للسَّردية، وإلى أداة تطبيع يومية مع نسخة محدَّدة من التاريخ.

بناء ذاكرة جماعية تتخطّى الانقسامات

إن معالجة هذه الفجوة العميقة بين الذاكرة الجماعية والتأريخ الرسمي تتطلّب شجاعة استثنائية، المطلوب أولًا الاعتراف بتعدّدية الروايات دون إلغاء الآخر، والقبول بأن كل مجتمع، كل طائفة، لها قصتها الخاصة، ولكن هذه القصص ليست بالضرورة متناقضة، بل هي أجزاء من مأساة وطنية كبرى.

التاريخ الرسمي لا يمكن أن يُكتب بصِدق ما لم ينطلق من هذه التجارب الفردية والمعاناة المشتركة، بل من خلال ربط الرواية الوطنية بالقصص الموروثة والحقيقية، نستطيع أن نبني ذاكرة جماعية سليمة، لا تقوم على التناسي أو الكذب أو التضليل، بل على الاعتراف، المساءلة والأمل. 


تأمل لمحمد الخبّازة في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


الذاكرة الجماعية والتأريخ الرسمي في لبنان:صراع على رواية الماضي
SHARE