الكتابة كأرشيف نسائي للحرب الأهلية
بقلم مهاد حيدر
November 23, 2025

الصورة اهداء من لأيمن نحلة

وُلدتُ في الذكرى الخامسة لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، في منطقة بقاعية اتّخذت فيها ملامح الحرب طابعًا مختلفًا عمّا كانت عليه في مناطق أخرى. علِمنا بوجود الجيش السوري من خلال الحواجز المنتشرة على مفارق طرقات قُرانا، ومن أحاديث عائلتنا الصغيرة التي عايشت تلك الحقبة. ولا تزال آثار السوط على ظهر جدّي شاهدةً حيّة على تلك المرحلة. 

وبحكم موقعنا البعيد عن العاصمة، عرفتُ أخبار الحرب مبتورة، مُشرذََمة، كأحجية مبعثَرة جمعتُ شُتاتها من كلمات وأصوات تناهَت إليّ، أعدْتُ تركيبها في ذاكرتي في سنوات لاحقة، عندما وجدتُ نفسي للمرة الأولى أمام سؤالٍ عن سنة اندلاع الحرب الأهلية، فأجبتُ بزمِّّ شفتيّ ورفع حاجبيّ، نافيةً معرفتي. ربما مَن عايش الحرب يملك صدمتها الواضحة، أما في حالة جيل ما بعد الحرب، فالصدمة مستترة، تناقلناها بشكل ضبابي عبر الجينات والأقاويل، زُرعت فينا من دون إرادتنا، في عمقٍ خفيّ من تاريخنا الجمعيّ والشخصيّ.
وما زلنا، بفعلها، نعيش حروبًا أهليةً مصغّرة: بين الأنا والآخر، بين الشبيه والمختلف، عالقين في فخّ الإيديولوجيات، وفي حرب الجسد ضدّ نفسه.

حين يُعاد تشكيل الذاكرة عند خطوط التماس

لم يذكر والدايَ يومًا مصطلح «الحرب الأهلية»، بل كانا يذكرانها بصفتها «الأحداث»، خاصة عندما كنّا نمرّ بالبيوت المهجورة في حوش بردى ومجدلون، حيث كانت آثار الأبواب المخلّعة والسرقات تُظهر استباحة المكان. كانا يذكران إن الناس هناك هُجّروا خلال «الأحداث»، دون تفاصيل إضافية.

كما ليس لدينا في ألبوم صوَرنا العائلية صورة من حفل زفاف والديّ. تقول أمّي إنهما تزوّجا خلال أسبوع الإضرابات عام ١٩٨٧، الإضراب الذي كان إعلانًا عن تمسّك اللبنانيين بوحدة لبنان، ومقدّمة رمزية لنهاية الحروب الطائفية.

تحكي أمّي أنها، بعمر الخمس سنوات، رأت كابوسًا أفزعها: مزار العذراء في زحلة والكعبة يحترقان، وأصابع أطفال تتساقط. استحال الكابوس إلى واقع حين زُنّرت مدرستها وكنيسة مار روكز في رياق وهُدّمتا على يد إحدى الميليشيات المسلّحة.

لم أسمع عبارة «الحرب الأهلية» إلّا من صديقتي التي أخذَتني في أوّل زياراتي إلى بيروت، إلى خطوط التماس بين الشياح وعين الرمّانة، وأخبرتني بحماسة عن أهمية التأريخ الشفوي للجرائم التي سمعتها خلال عملها. حكَت لي الكثير من القصص، كنت أُضطر معها لإغلاق عينيّ وأُذنيّ أثناء تجوالنا، كي أتجنّب تخيّل وجوه النساء والأطفال وصراخهم، أو رؤوس المسلَّحين خلف السواتر.

هذا الغياب في التفاصيل خلّف داخل نفسي تساؤلات عن الماضي. كانت أولى لحظات المواجهة معه خلال المعركة المصغّرة على دوّار الطيونة بين بعض الميليشيات عام ٢٠٢١، حيث كنت أسكُن على مشارف منطقة فرن الشباك. تلك التجربة علّمتني الخوف المباشر من القذائف والرصاص، التي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا.
وتصاعَد هذا الموقف لاحقًا في حادثة شاحنة الكحالة، حيث اتخذتُ موقفي الشخصي الواضح: معاداة جميع أشكال التسلّح، بغضِّ النظر عن الجهة التي تمثّلها.

وفي تجربة أخرى، عندما أوصلني أحد أقاربنا إلى منزلي في الأشرفية، وسألني ابنه الذي لا يتجاوز الرابعة عشرة: «كيف لكِ أن تسكني في الشرقية؟ هل تشعرين بالأمان هناك؟». استغربتُ كيف تحوّلت الأماكن في ذِهن الأطفال، مثل «بيروت الشرقية» و«بيروت الغربية»، من إشارات جغرافية إلى تقسيمات طائفية ومناطقية.
وكيف لامرأة مثلي، آتية من مناطق الأطراف، لا تزال تهرُب من العنف الجندَري في بيئتها، أن تحظى بالأمان؟
فهمتُ حينها، للمرة الأولى، كيف تتشابك قصص النساء في الحروب مع صراعاتهن اليومية في أنظمة أبوية وطائفية.

وقفتُ أمام المبنى المزروع بالرصاص على دوّار الطيونة. بحثتُ بعينيّ عن آثار جديدة للرصاص، لم يمرّ عليها الإعلام المؤدلََج. وفي ذهني، أطلّت إحدى بطلات علوية صبح، التي تخاف من اجتياز دوّار الطيونة بسبب القذائف.

خفتُ أنا أيضًا من اجتياز طريق صيدا القديمة سيرًا. وأردتُ الهروب مجدَّدًا من العنف البنيوي الذي نُحاصَر به باستمرار.

اللغة النسائية وذاكرتنا المؤجّلة

لطالما شعرتُ أن العنف محرّك التاريخ، ولم يكن لي مهرب منه إلّا عبر اللغة. وجدتُ فيها مساحة للّقاء مع الكثيرات من النساء، عبر كتاباتهن النسائية والنسوية. فما الذي نملكه في هذه البلاد سوى اللغة؟ إنها أداتنا الوحيدة للتوثيق خوفًا من النسيان. نحمل قصصًا نفضح بها أنماط العنف التي نختبرها، ونشارك فيها أحيانًا، بوَعي أو دونه، تحت مسمّيات اجتماعية أو سياسية. في كتابات النساء وجدتُ أهوال الحرب والذكورية موثّقة: الخوف، الغضب، الرغبة وتفكيك البنية التي أنتجت هذا العنف. عرفتُ كيف خاضت بعض النساء الحرب، لا فقط كمقاتلات، بل وناشطات، وكأمّهات مُجبرات على أداء أدوارهن الرعائية.

قرأتُ ليلى البعلبكي، التي أعلنت اندلاع الحرب قبل وقوعها، من خلال روايتها «سفينة حنان إلى القمر»: «لماذا لا تقع الحرب؟»، رافضةً الحداثة، والفجوة الطبقية، والعنف الذكوري، ومُعلنةً: «لا أنتمي إلى أي فريق، وأني أكره الآخرين، كل المتعصِّبين». فكنت مثلها، لا أنتمي إلى أي فريق.

ثم عرفتُ جين مقدسي، ونجاح القاضي، ودلال البزري، اللواتي روين تجاربهنّ في الحرب، كاشفات وجوهًا متعدِّدة للذكورية والعنف.

حين قرأت مقدسي، فهمتُ كم أن السؤال عن «المسؤول» ينزوي أخلاقيًا حين نغرق في الطائفية. لكنها رفضَت الصمت، وكتبت عن نساء «تعلّمن جغرافيا البلاد من القصف»، أوليس الأمر نفسه ما زلنا نتعلّمه؟ أو كيف تتحوّل النساء إلى خط دفاع «يتدبّرن البيوت» ويُدرن الأزمات في الفضاءات الخاصة لهن. 

نجاح القاضي، في مذكراتها كصحافية حرب، جعلتني أدرك كيف يمتدّ العمل الرعائي خارج الحيّز الخاص، ليُصبح ممارسة سياسية، كما في قصة «أم شفيق» التي كانت تطبخ للحيّّ بأكمله. وكيف استخفّ بها المقاتلون من الذكور، لأنها «فتاة لا تفهم المعارك». وأنا أتساءل: ألسنا نحن من نخوضها بأجسادنا كل يوم؟ أليس ثمّة تواطؤ أعمى مع العنف ضد هذه الأجساد، كما في مجزَرتَي المسلخ والكرنتينا؟

وفي السياق نفسه، لفتتني دلال البزري إلى التفاوت الجندري داخل الفصائل التقدّمية، حيث طُلب من النساء مضاعفة الجهد لنَيل الاعتراف بهنّ، فيما جُنّدت الطالبات بوسامة «الرفاق»، وأُسنِدت المهام الرعائية للنساء حتى في أكثر البيئات الحزبية انفتاحًا، وهو ما أحالني إلى النّكات التي ما زلنا نسمعها لليوم «تعي لعندي عالبيت إشرحلك عن الصراع الطبقي». 

أوحََت لي إيتيل عدنان، من غُربتها التي لم تكن بعيدة عنّا، أن النساء هنّ الشاهدات الحقيقيات على الخراب. نحن مَن نحفظ ذاكرة البيوت، ونتحدّث عن الحرب بتفاصيلها، ونحمل عبء الحماية. لا أنسى الصورة التي رسَمتها: أمٌّ تستقبل جثة ابنها بصمت كي لا تُخيف إخوته. كم منّا ابتلَعن الصرخة نفسها؟

أشارت إيتيل إلى ما شعرتُ به دومًا: المدينة تُغلق في وجهي، والشوارع التي كانت امتداد خطواتي تصير حكرًا على الذكور. نُقصى من المشهد، ولا فضاءات عامة تحتوينا. 

ثم قرأتُ إيمان حميدان، فوجَدت نفسي. نساؤها يُشبهن نساء جيلنا: الخسارات اليومية، الحب الممزَّق والأمومة تحت الرصاص. هناك فهمتُ أن العنف ليس فقط في الحرب، بل في النظرات، اللغة، الأزقّة والحوارات المبتورة.

في «أغنيات للعتمة»، وجدت فيها كيف تتحلّل المدينة، وتفكِّك الحرب روابطنا الأخيرة، وتدفعنا، نحو المجهول، حاملات ثِقل الذاكرة.

وسط هذا العنف الأبوي والطائفي، منحَتني كتاباتهن متّسعًا للفهم والتفكيك، حيث تُنقِذ الذاكرة النسائية المؤجّلة ما تبقّى من التاريخ، قبل أن يطمُسه الانحياز.


تأمل لمهاد حيدر في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان» بدعم من برنامج التمويل زيفيك.


الكتابة كأرشيف نسائي للحرب الأهلية
SHARE